الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **
1 - عن ابن عمر قال: (دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالًا فسألته هل صلى فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: نعم بين العمودين اليمانيين). متفق عليه. 2 - وعن ابن عمر أنه قال لبلال: (هل صلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الكعبة قال: نعم بركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجهة الكعبة ركعتين). رواه أحمد والبخاري. قوله (دخل النبي صلى اللَّه عليه وسلم البيت) قال الحافظ: كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينًا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند البخاري في كتاب الجهاد. قوله (هو وأسامة وبلال وعثمان) زاد مسلم من طريق أخرى ولم يدخلها معهم أحد. ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان فزاد الفضل. ولأحمد من حديث ابن عباس حدثني أخي الفضل وكان معه حين دخلها. قوله (فأغلقوا عليهم الباب) زاد مسلم: (فمكث فيها مليًا) وفي رواية له: (فأجافوا عليهم الباب طويلًا) وفي رواية لأبي عوانة: (من داخل) وزاد يونس: (فمكث نهارًا طويلًا) وفي رواية فليح: (زمانًا). قوله (فلما فتحوا) في رواية: (ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم) وفي رواية: (وكنت شابًا قويًا فبادرت الناس فبدرتهم) وأفاد الأزرقي في كتاب مكة أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب الناس عنه. قوله (بين العمودين اليمانيين) وفي رواية: (بين العمودين المقدمين). قوله (فصلى في وجهة الكعبة ركعتين) وفي رواية للبخاري في الصلاة أن ابن عمر قال: فذهب عليَّ أن أسأله كم صلى وروي عنه أنه قال: نسيت أن أسأله كم صلى. وقد جمع الحافظ بين الراويتين في الفتح. ـ والحديثان ـ يدلان على مشروعية الصلاة في الكعبة لصلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيها وقد ادعى ابن بطال أن الحكمة في تغليق الباب لئلا يظن الناس أن ذلك سنة فيلتزمونه قال الحافظ: وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما طلع عليه بلال ومن كان معه وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه نقل الواحد انتهى. فالظاهر أن التغليق ليس لما ذكره بل لمخافة أن يزدحموا عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه أو ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه. وإنما أدخل معه عثمان لئلا يظن أنه عزل من ولاية البيت وبلالًا وأسامة لملازمتهما خدمته. وقيل فائدة ذلك للتمكن من الصلاة في جميع جهاتها لأن الصلاة إلى جهة الباب وهو مفتوح لا تصح وقد عارض أحاديث صلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الكعبة حديث ابن عباس عند البخاري وغيره: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه) قال الحافظ: ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى التكبير لأن ابن عباس أثبته ولم يتعرض له بلال وأما الصلاة فإثبات بلال أرجح لأن بلالًا كان معه يومئذ ولم يكن معه ابن عباس وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه وقد روى عنه نفي الصلاة في الكعبة أيضًا مسلم من طريق ابن عباس ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عنه فتعارضت الروايات في ذلك فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ومن جهة أنه لم يختلف عنه في الإثبات واختلف على من نفى وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يدعو فاشتغل بالدعاء في ناحية والنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في ناحية ثم صلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أنه يحجب عنه بعض الأعمدة فنفاها عملًا بظنه. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أسامة: (قال دخلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الكعبة فرأى صورًا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور) قال الحافظ: هذا إسناده جيد قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده انتهى. وقد روى عمر بن شيبة في كتاب مكة عن علي بن بذيمة قال: (دخل النبي صلى اللَّه عليه وسلم الكعبة ودخل معه بلال وجلس أسامة على الباب فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ حبوته فحلها) الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته فلما سئل عنها نفاها مستصحبًا للنفي لقصر زمن احتبائه وفي كل نفي رؤيته لا ما في نفس الأمر. ومنهم من جمع بين الحديثين بعد الترجيح وذلك من وجوه: الأول أن الصلاة المثبتة هي اللغوية والمنفية الشرعية. والثاني يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين قاله المهلب شارح البخاري. وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين فيقال لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضًا فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. قال الحافظ: وهذا جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع ويشهد له ما روى الأزرقي في كتاب مكة عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح وأما يوم حج فلم يدخلها وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالوحدة وحدة السفر لا الدخول.
1 - عن ابن عمر قال: (سئل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة قال: صل قائمًا إلا أن تخاف الغرق). رواه الدارقطني والحاكم أبو عبد اللَّه في المستدرك على شرط الصحيحين. الحديث رواه الحاكم من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر وقال: على شرط مسلم قال: وهو شاذ بمرة. ـ الحديث ـ يدل على وجوب الصلاة من قيام في السفينة ولا يجوز القعود إلا لعذر مخافة غرق أو غيره لأن مخافة الغرق تنفي عنه الاستطاعة وقد قال اللَّه تعالى وقال النووي: هذا حديث ضعيف وأخرج البزار والبيهقي في المعرفة من حديث جابر مرفوعًا بلفظ: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك) قال أبو حاتم: الصواب أنه موقوف ورفعه خطأ.
1 - عن يعلى بن مرة: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع). رواه أحمد والترمذي. الحديث أخرجه أيضًا النسائي والدارقطني وقال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمرو بن الرياح وثبت ذلك عن أنس من فعله وصححه عبد الحق وحسنه النووي وضعفه البيهقي وهو يدل على ما ذهب إليه البعض من صحة صلاة الفريضة على الراحلة كما تصح في السفينة بالإجماع ويعارض هذا حديث عامر بن ربيعة الآتي وستعرف الكلام على ذلك هنالك. وقد صحح الشافعي الصلاة المفروضة على الراحلة بالشروط التي ستأتي وحكى النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح الإجماع على عدم جواز ترك الاستقبال في الفريضة. قال الحافظ: لكن رخص في شدة الخوف وحكى النووي أيضًا الإجماع على عدم صلاة الفريضة على الدابة قال: فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود على دابة واقفة عليها هودج أو نحوه جازت الفريضة على الصحيح من مذهبنا فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح المنصوص للشافعي. وقيل تصح كالسفينة فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر قال أصحابنا يصلي الفريضة على الدابة بحسب الإمكان ويلزمه إعادتها لأنه عذر نادر انتهى. ـ والحديث ـ يدل على جواز صلاة الفريضة على الراحلة ولا دليل يدل على اعتبار تلك الشروط إلا عمومات يصلح هذا الحديث لتخصيصها وليس في الحديث إلا ذكر عذر المطر ونداوة الأرض فالظاهر صحة الفريضة على الراحلة في السفر لمن حصل له مثل هذا العذر وإن لم يكن في هودج إلا أن يمنع من ذلك إجماع ولا إجماع فقد روى الترمذي في جامعه عن أحمد وإسحاق أنهما يقولان بجواز الفريضة على الراحلة إذا لم يجد موضعًا يؤدي فيه الفريضة نازلًا. ورواه العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي. قوله (والسماء من فوقهم) المراد بالسماء هنا المطر قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا قال الجوهري: يقال ما زلنا نطأ في السماء حتى أتيناكم. قوله (والبلة) بكسر الباء الموحدة وتشديد اللام قال الجوهري: البلة بالكسر النداوة. قال المصنف رحمه اللَّه: وإنما ثبتت الرخصة إذا كان الضرر بذلك بينًا فأما اليسير فلا. روى أبو سعيد الخدري قال: (رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته) متفق عليه انتهى. وسيأتي حديث أبي سعيد هذا بطوله في باب الاجتهاد في العشر الأواخر من كتاب الاعتكاف. واستدلال المصنف على تقييده لجواز صلاة الفريضة على الراحلة بالضرر البين بحديث أبي سعيد غير متجه لأن سجوده على الماء والطين كان في الحضر وكان معتكفًا على أنه لا نزاع أن السجود على الأرض مع المطر عزيمة فلا يكون صالحًا لتقييد هذه الرخصة. 2 - وعن عامر بن ربيعة قال: (رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو على راحلته يسبح يومئ برأسه قبل أيَّ وجهة توجه ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة). متفق عليه. وفي الباب عن جابر عند البخاري وأبي داود والترمذي وصححه. وعن أنس عند الشيخين وأبي داود والنسائي. وعن ابن عمر عند أبي داود والنسائي وأخرجه البخاري من فعل ابن عمر. وأخرج مسلم عنه مرفوعًا بنحو ما عند أبي داود والنسائي وعن أبي سعيد عند أحمد. وعن سعيد ابن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده ضرار بن صرد وهو ضعيف. وعن شقران عند أحمد وفي إسناده مسلم بن خالد وثقه الشافعي وابن حبان وضعفه غير واحد ورواه أيضًا الطبراني في الكبير والأوسط. وعن الهرماس عند أحمد أيضًا وفي إسناده عبد اللَّه بن واقد الحراني مختلف فيه ورواه الطبراني أيضًا. وعن أبي موسى عند أحمد أيضًا وفي إسناده يونس بن الحارث وثقه ابن معين في رواية عنه وابن حبان وابن عدي وضعفه أحمد وغير واحد ورواه الطبراني في الأوسط. ـ والحديث ـ يدل على جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده وهو إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم وإنما الخلاف في جواز ذلك في الحضر فجوزه أبو يوسف وأبو سعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. قال ابن حزم: وقد روينا عن وكيع عن سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم عمومًا في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك انتهى. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح فيها بذكر السفر وهو ماش على قاعدتهم في أنه لا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بكل منهما فأما من يحمل المطلق على المقيد وهم جمهور العلماء فحمل الروايات المطلقة على المقيدة بالسفر انتهى. وظاهر الأحاديث المقيدة بالسفر عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة وهو محكي عن الشافعي ولكنها حكاية غريبة وذهب إليه الإمام يحيى ويدل لما قالوه ما في رواية رزين من حديث جابر بزيادة في سفر القصر فإن صحت هذه الزيادة وجب حمل ما أطلقته الأحاديث عليها. وظاهر الأحاديث أن الجواز مختص بالراكب وإليه ذهب أهل الظاهر وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وقال الأوزاعي والشافعي: إنه يجوز للراجل قال المهدي في البحر: وهو قياس المذهب واستدلوا بالقياس على الراكب. وظاهر الأحاديث اختصاص ذلك بالنافلة كما صرح في حديث الباب وغيره بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يكن يفعل ذلك في المكتوبة وقد تقدم الخلاف في ذلك في الحديث الذي قبل هذا ونفي فعل ذلك في المكتوبة وإن كان ثابتًا في الصحيحين وغيرهما لكن غاية ما فيه أنه أخبرنا النافي بما علم وعدم علمه لا يستلزم العدم فالواجب علينا العمل بخبر من أخبرنا بشرع لم يعلمه غيره لأن من علم حجة على من لا يعلم وكثيرًا ما يرجح أهل الحديث ما في الصحيحين على ما في غيرهما في مثل هذه الصورة وهو غلط أوقع في مثله الجمود فليكن منك هذا على ذكر. قوله (يسبح) أي يتنفل والسبحة بضم السين وإسكان الباء النافلة قاله النووي وإطلاق التسبيح على النافلة مجاز والعلاقة الجزئية والكلية أو اللزوم لأن الصلاة المخلصة يلزمها التنزيه.
1 - عن عثمان بن أبي العاص: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمره أن يجعل مساجد الطائف حيث كان طواغيتهم). رواه أبو داود وابن ماجه قال البخاري: وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسهم من أجل التماثيل التي فيها الصور. قال: وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها التماثيل. الحديث رجال إسناده ثقات ومحمد بن عبد اللَّه بن عياض الطائفي المذكور في إسناد هذا الحديث ذكره ابن حبان في الثقات وكذلك أبو همام ثقة واسمه محمد بن محمد الدلال البصري وعثمان ابن أبي العاص المذكور هو الثقفي أمره النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذلك حين استعمله على الطائف. قوله (طواغيتهم) جمع طاغوت وهو بيت الصنم الذي كانوا يتعبدون فيه للَّه تعالى ويتقربون إليه بالأصنام على زعمهم. ـ والحديث ـ يدل على جواز جعل الكنائس والبيع وأمكنة الأصنام مساجد وكذلك فعل كثير من الصحابة حين فتحوا البلاد جعلوا متعبداتهم متعبدات للمسلمين وغيروا محاريبها. قوله (وقال عمر) هكذا ذكره البخاري تعليقًا ووصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: (لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعامًا وكان من عظمائهم وقال: أحب أن تجيبني وتكرمني فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها) يعني التماثيل. قوله (من أجل التماثيل) هو جمع تمثال بمثناة ثم مثلثة بينهما ميم. قال الحافظ: وبينه وبين الصورة عموم وخصوص مطلق فالصورة أعم. قوله (التي فيها الصور) الضمير يعود على الكنيسة والصور بالجر بدل من التماثيل أو بيان لها أو بالنصب على الاختصاص أو بالرفع أي أن التماثيل مصورة والضمير على هذا للتماثيل. وفي رواية الأصيلي بزيادة واو العاطفة. قوله (وكان ابن عباس) هكذا ذكره البخاري تعليقًا ووصله البغوي في الجعديات وزاد فيه فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر. ـ والأثران يدلان ـ على جواز دخول البيع والصلاة فيها إلا إذا كان فيها تماثيل وقد تقدم الكلام في ذلك والبيعة صومعة الراهب قاله في المحكم وقيل كنيسة النصارى. قال الحافظ: والثاني هو المعتمد وهي بكسر الباء قال: ويدخل في حكم البيعة الكنيسة وبيت المدراس والصومعة وبيت الصنم وبيت النار ونحو ذلك. قال ابن رسلان: وفي الحديث أنه كان يصلي في البيعة وهي كنيسة أهل الكتاب. 2 - وعن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: (خرجنا وفدًا إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا واستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ وتمضمض ثم صبه في إدواة وأمرنا فقال: اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجدًا). رواه النسائي. الحديث أخرج نحوه الطبراني في الكبير والأوسط وقيس بن طلق ممن لا يحتج بحديثه قال يحيى بن معين: لقد أكثر الناس في قيس بن طلق وأنه لا يحتج بحديثه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: إن أباه وأبا زرعة قالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة ووهناه ولم يثبتاه وضعفه أحمد ويحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه وفي رواية عثمان بن سعيد عنه أنه وثقه ووثقه العجلي قال في الميزان حاكيًا عن ابن القطان أنه قال: يقتضي أن يكون خبره حسنًا لا صحيحًا وأما من دون قيس بن طلق فهم ثقات فإن النسائي قال أخبرنا هناد بن السري عن ملازم قال حدثني عبد اللَّه بن بدر عن قيس بن طلق وملازم هو ابن عمر ووثقه ابن معين والنسائي. وعبد اللَّه بن بدر ثقة وأما هناد فهو الإمام الكبير المشهور. والطهور والإداوة قد تقدم ضبطهما. ـ والحديث ـ يدل على جواز اتخاذ البيع مساجد وغيرها من الكنائس ونحوها ملحق بها بالقياس كما تقدم. 3 - وعن أنس: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا واللَّه ما نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه فقال أنس: وكان فيه ما أقوال لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت ثم بالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم معهم وهو يقول اللَّهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة). مختصر من حديث متفق عليه. قوله (ثامنوني) أي اذكروا لي ثمنه لأذكر لكم الثمن الذي أختاره قال ذلك على سبيل المساومة فكأنه قال ساوموني في الثمن. قوله (لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه) تقديره لا نطلب الثمن لكن الأمر فيه إلى اللَّه أو إلى بمعنى من وكذا عند الإسماعيلي: (لا نطلب ثمنه إلا من اللَّه) وزاد ابن ماجه: (أبدًا) وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنًا وخالف ذلك أهل السير قاله الحافظ. قوله (فكان فيه) أي في الحائط الذي بني في مكانه المسجد. قوله (وفيه خرب) قال ابن الجوزي: المعروف فيه فتح الخاء وكسر الراء بعدها موحدة جمع خربة ككلم وكلمة. وحكى الخطابي كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة وللكشميهني بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة. وقد بين أبو داود أن رواية عبد الوارث بالمعجمة والموحدة ورواية حماد بن سلمة عن أبي التياح بالمهملة والمثلثة قال الحافظ: فعلى هذا فرواية الكشميهني وهم لأن البخاري إنما أخرجه من رواية عبد الوارث. قوله (فاغفر للأنصار) وفي رواية في البخاري للمستملي والحموي (فاغفر الأنصار) بحذف اللام قال الحافظ: ويوجه له بأن ضمن اغفر معنى استر. وقد رواه أبو داود عن مسدد بلفظ (فانصر الأنصار). ـ وفي الحديث ـ جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع وجواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها وجواز قطع النخل المثمرة للحاجة. قال الحافظ: وفيه نظر لاحتمال أن يكون ذلك مما لا يثمر إما بأن يكون ذكورًا وإما أن يكون مما طرأ عليه ما قطع ثمرته وفيه أن احتمال كونها مما لا تثمر خلاف الظاهر فلا يناقش بمثله والأولى المناقشة باحتمال أن تكون غير مثمرة حال القطع إن أراد المستدل بالمثمرة ما كانت الثمرة موجودة فيها حال القطع. ـ وللحديث ـ فوائد ليس هذا محل بسطها وصفة بنيان المسجد ما ثبت عند البخاري وغيره من حديث ابن عمر أنه قال: (إن المسجد كان على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مبنيًا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج.
1 - عن عثمان بن عفان قال: (سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول من بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّه له مثله في الجنة). متفق عليه. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وفي إسناد الطبراني وهب بن حفص وهو ضعيف وفي إسناد ابن عدي الحكم بن يعلى بن عطاء وهومنكر الحديث. وعن عمر عند ابن ماجه. وعن علي عند ابن ماجه أيضًا وفيه ابن لهيعة وعن عبد اللَّه بن عمرو عند أحمد وفي إسناده الحجاج بن أرطأة. وعن أنس عند الترمذي وفي إسناده زياد النميري وهو ضعيف وله طرق أخر عن أنس منها عند الطبراني ومنها عند ابن عدي وفيهما مقال. وعن ابن عباس عند أحمد والبزار في مسنديهما وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف. وعن عائشة عند البزار والطبراني في الأوسط وفيه كثير ابن عبد الرحمن ضعفه العقيلي وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط وفيها المثنى ابن الصباح ضعفه الجمهور ورواه أبو عبيد في غريبه بإسناد جيد وعن أم حبيبة عند ابن عدي في الكامل وفيه أبو ظلال ضعيف جدًا. وعن أبي ذر عند ابن حبان في صحيحه والبزار والطبراني والبيهقي وزاد: (قدر مفحص قطاة) قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن عمرو بن عبسة عند النسائي. وعن واثلة بن الأسقع عند أحمد والطبراني وابن عدي. وعن أبي هريرة عند البزار وابن عدي والطبراني وفي إسناده سليمان بن داود اليمامي وليس بشيء. ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها المثنى بن الصباح. وعن جابر عند ابن ماجه وإسناده جيد. وعن معاذ عند الحافظ الدمياطي في جزء المساجد له. وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى عنده أيضًا. وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وفي إسناده الحكم بن ظهير وهو متروك بزيادة: (ولو كمفحص قطاة). وعن أبي موسى عند الدمياطي في جزئه المذكور. وعن أبي أمامة عند الطبراني وفيه علي بن زيد وهو ضعيف. وعن أبي قرصافة واسمه حيدرة عند الطبراني وفي إسناده جهالة. وعن نبيط بن شريط عند الطبراني. وعن عمر بن مالك عند الدمياطي في الجزء المذكور. وعن أسماء بنت يزيد عند أحمد والطبراني وابن عدي قال يحيى بن معين: هذا ليس بشيء وذكر أبو القاسم بن منده في كتابه المستخرج من كتب الناس للفائدة أنه رواه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رافع بن خديج وعبد اللَّه بن عمر وعمران بن حصين وفضالة بن عبيد وقدامة بن عبد اللَّه العامري ومعاوية بن حيدة والمغيرة بن شعبة والمقداد بن معد يكرب وأبو سعيد الخدري. قوله (من بنى للَّه مسجدًا) يدل على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الأرض مسجدًا من غير بناء وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء والتنكير في مسجد للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير وعن أنس عند الترمذي مرفوعًا بزيادة لفظ: (كبيرًا أو صغيرًا) ويدل لذلك رواية (كمفحص قطاة) وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان وابن حبان والبزار عن أبي ذر وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس والطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر وعن أبي نعيم في الحلية عن أبي بكر وابن خزيمة عن جابر وحمل ذلك العلماء على المبالغة لأن المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة وقيل هي على ظاهرها والمعنى أنه يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر أو يشترك جماعة في بناء مسجد فيقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر وفي رواية للبخاري قال بكير: حسبت أنه قال يعني شيخه عاصم بن عمر بن قتادة (يبتغي به وجه اللَّه) قال الحافظ: وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث ولم أرها إلا من طريقه هكذا وكأنها ليست في الحديث بلفظها فإن كل من روى الحديث من جميع الطرق إليه لفظهم (من بنى للَّه مسجدًا) فكأن بكيرًا نسبها فذكرها بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه انتهى ولكنه يؤدي معنى هذه الزيادة. قوله (من بنى للَّه) فإن الباني للرياء والسمعة والمباهاة ليس بانيًا للَّه وأخرج الطبراني من حديث عائشة بزيادة: لا يريد به رياء ولا سمعة. قوله (بنى اللَّه له مثله) وقد اختلف في معنى المماثلة فقال ابن العربي: مثله في القدر والمساحة ويرده زيادة بيتًا أوسع منه عند الطبراني من حديث ابن عمر. وروى أحمد أيضًا من طريق واثلة بن الأسقع بلفظ (أفضل منه) وقيل مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء ويرده أن بناء الجنة لا يخرب بخلاف بناء المسجد فلا مماثلة. وقال صاحب المفهم: هذه المثلية ليست على ظاهرها وإنما يعني أنه يبنى له بثوابه بيتًا أشرف وأعظم وأرفع. وقال النووي: يحتمل أن يكون مثله معناه بنى اللَّه له مثله في مسمى البيت وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويحتمل أن يكون معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا انتهى. قال الحافظ: لفظ المثل له استعمالان أحدهما الإفراد مطلقًا كقوله تعالى وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى 2 - وعن ابن عباس: (عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: من بنى للَّه مسجدًا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى اللَّه له بيتًا في الجنة). رواه أحمد. الكلام على الحديث تخريجًا وتفسيرًا قد قدمناه في شرح الذي قبله.
1 - عن ابن عباس قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: ما أمرت بتشييد المساجد) قال ابن عباس: لتزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. أخرجه أبو داود. الحديث صححه ابن حبان ورجاله رجال الصحيح لأن أبا داود رواه عن سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة وهو راشد بن كيسان الكوفي وقد أخرج له مسلم عن يزيد بن الأصم هو العامري التابعي أخرج له مسلم أيضًا عن ابن عباس وقد أخرج البخاري في صحيحه قول ابن عباس المذكور تعليقًا وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله قاله الحافظ. قوله (ما أمرت) بضم الهمزة وكسر الميم مبني للمفعول. قوله (بتشييد المساجد) قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى {بروج مشيدة} وهي التي طول بناؤها يقال شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشيد وهو الجص وشيدته تشييدًا طولته ورفعته. وقيل المراد بالبروج المشيدة المجصصة قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي وفيه رد على من حمل قوله تعالى قوله (قال ابن عباس) هكذا رواه ابن حبان موقوفًا وقبله حديث ابن عباس أيضًا مرفوعًا وظن الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في لتزخرفها مكسورة قال: وهي لام التعليل للمنفي قبله والمعنى ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة قال: والنون فيه لمجرد التأكيد وفيه نوع تأنيب وتوبيخ ثم قال: ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم. قال الحافظ: وهذا يعني فتح اللام هو المعتمد والأول لم تثبت به الرواية أصلًا فلا يغتر به. وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الكتب المشهورة وغيرها انتهى. والزخرفة الزينة قال محي السنة أنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا دينهم وحرفوا كتبهم وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها. قال أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم. قال ابن رسلان: وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخباره صلى اللَّه عليه وآله وسلم عما سيقع بعده فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلمًا وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل اللَّه السلامة والعافية انتهى. ـ والحديث ـ يدل على أن تشييد المساجد بدعة وقد روي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك. وروي عن أبي طالب أنه لا كراهة في تزيين المحراب. وقال المنصور باللَّه: إنه يجوز في جميع المساجد. وقال البدر بن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة وتعقب بأن المنع إن كان للحث على إتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة. ومن جملة ما عول عليه المجوزون للتزيين بأن السلف لم يحصل منهم الإنكار على من فعل ذلك وبأنه بدعة مستحسنة وبأنه مرغب إلى المسجد وهذه حجج لا يعول عليها من له حظ من التوفيق لا سيما مع مقابلتها للأحاديث الدالة على أن التزيين ليس من أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأنه نوع من المباهاة المحرمة وأنه من علامات الساعة كما روي عن علي عليه السلام. وأنه من صنع اليهود والنصارى وقد كان صلى اللَّه عليه وآله وسلم يحب مخالفتهم ويرشد إليها عمومًا وخصوصًا. ودعوى ترك إنكار السلف ممنوعة لأن التزيين بدعة أحدثها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأهل العلم والفضل وأحدثوا من البدع ما لا يأتي عليه الحصر ولا ينكره أحد وسكت العلماء عنهم تقية لا رضا بل قام في وجه باطلهم جماعة من علماء الآخرة وصرخوا بين أظهرهم بنعي ذلك عليهم ودعوى أنه بدعة مستحسنة باطلة وقد عرفناك وجه بطلانها في شرح حديث (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) في باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب ودعوى أنه مرغب إلى المسجد فاسدة لأن كونه داعيًا إلى المسجد ومرغبًا إليه لا يكون إلا لمن كان غرضه وغاية قصده النظر إلى تلك النقوش والزخرفة فأما من كان غرضه قصد المساجد لعبادة اللَّه التي لا تكون عبادة على الحقيقة إلا مع خشوع وإلا كانت كجسم بلا روح فليست إلا شاغلة عن ذلك كما فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الإنبجانية التي بعث بها إلى أبي جهم. وكما تقدم من هتكه للستور التي فيها نقوش. وكما سيأتي في باب تنزيه قبلة المصلي عما يلهي وتقويم البدع المعوجة التي يحدثها الملوك توقع أهل العلم في المسالك الضيقة فيتكلفون لذلك من الحجج الواهية ما لا ينفق إلا على بهيمة. 3 - وعن أنس: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد). رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال البخاري: قال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريدة النخل وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. الحديث صححه ابن خزيمة وأورده البخاري عن أنس تعليقًا بلفظ: (يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلًا) ووصله أبو يعلى الموصلي في مسنده. وروى الحديث أبو نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة بلفظ: (يتباهون بكثرة المساجد). قوله (حتى يتباهى الناس في المساجد) أي يتفاخرون في بناء المساجد والمباهاة بها كما في رواية البخاري أن يتفاخروا بها بالنقش والكثرة. وروى في شرح السنة بسنده عن أبي قلابة قال: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس: أي مسجد هذا قالوا: مسجد أحدث الآن فقال أنس: (إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: سيأتي على الناس زمان يتباهون في المساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلًا). قوله (وقال أكن الناس) قال الحافظ: وقع في روايتنا أكن الناس بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ المضارع من أكن الرباعي يقال أكننت الشيء إكنانًا أي صنته وسترته وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته وفرق الكسائي بينهما فقال: كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته. ووقع في رواية الأصيلي أكن بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضًا ويرجحه قوله قبله وأمر عمر وقوله بعده وإياك وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد ثم التفت إلى الصانع فقال له: وإياك. أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك قال عياض: وفي رواية غير الأصيلي كن الناس بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضًا وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون انتهى. قال الحافظ: وهو متجه لكن الرواية لا تساعده. قوله (فتفتن الناس) بفتح المثناة من فتن وضبطه الأصيلي بالضم من افتن وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال: فتن وأفتن بمعنى. قال ابن بطال: كأن عمر فهم من ذلك رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال: إنها ألهتني عن صلاتي. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعًا: (ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم) ورجاله ثقات إلا شيخ جبارة بن المغلس ففيه مقال.
1 - عن أنس قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها). رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضًا الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه قال: وذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد اللَّه يعني الراوي له عن أنس سماعًا من أحد من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا قوله حدثني من شهد خطبة النبي صلى اللَّه عليه وسلم. وأنكر علي ابن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز ابن أبي رواد الأزدي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد. قال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة. قوله (القذاة) بتخفيف الذال المعجمة والقصر الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك. قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب مما يسقط فيه ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرًا. قال ابن رسلان في شرح السنن: فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى وبالطاهر عن النجس والحسنات على قدر الأعمال. قال: وسمعت من بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أخرج قذاة من المسجد أو أذى من طريق المسلمين أن يقول عند أخذها لا إله إلا اللَّه ليجمع بين أدنى شعب الإيمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد وبين الأفعال والأقوال وإن اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل انتهى. إلا أنه لا يخفى أن الأحكام الشرعية تحتاج إلى دليل وقوله ينبغي حكم شرعي. قوله (فلم أر ذنبًا أعظم) قال شارح المصابيح أي من سائر الذنوب الصغائر لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن من استخفافه وقلة تعظيمه للقرآن وإنما قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم هذا التشديد العظيم تحريضًا منه على مراعاة حفظ القرآن انتهى. والتقييد بالصغائر يحتاج إلى دليل. وقيل المراد بقوله نسيها ترك العمل بها. ومنه قوله تعالى 2 - وعن عائشة قالت: (أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب). رواه الخمسة إلا النسائي. 3 - وعن سمرة بن جندب قال: (أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها). رواه أحمد والترمذي وصححه ورواه أبو داود ولفظه: (كان يأمرنا بالمساجد أن نضعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها). الحديث الأول أخرجه الترمذي مسندًا ومرسلًا. وقال: المرسل أصح ولكنه رواه غير مسند بإسناد رجاله ثقات فرواه أبو داود عن حسين بن علي بن الأسود العجلي قال أبو حاتم: صدوق عن زائدة بن قدامة أو ابن بسيط وهما ثقتان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا والحديث الثاني رواه أحمد بإسناد صحيح. وكذا رواه غيره بأسانيد جيدة. قوله (في الدور) قال البغوي في شرح السنة: يريد المحال التي فيها الدور ومنه قوله تعالى قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على المواضع وقد تطلق على القبائل مجازًا. قال بعض المحدثين: والبساتين في معنى الدور وعلى هذا فيستحب بناء المسجد من حجر أو لبن أو مدر أو خشب وغير ذلك في كل محلة يحلها المقيمون بها وكل بساتين مجتمعة. وقال في شرح المشكاة: الدور المذكورة في الحديث جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة والمراد المحلات فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارًا أو محمول على اتخاذ بيت للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهل البيت قاله ابن عبد الملك. والأول هو المعول عليه انتهى. وقال شارح المصابيح: يحتمل أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أذن أن يبني الرجل في داره مسجدًا يصلي فيه أهل بيته اهـ. فعلى تفسير الدار بالمحلة المساجد المذكورة في الحديث جمع مسجد بكسر الجيم وعلى تفسيرها بدار الرجل المساجد جمع مسجد بفتح الجيم وقد نقل عن سيبويه ما يؤدي هذا المعنى. قوله (وأن تنظف) بالظاء المشالة لا بالضاد فإنه تصحيف ومعناه تطهر كما في رواية ابن ماجه والمراد تنظيفها من الوسخ والدنس. قوله (وتطيب) قال ابن رسلان: بطيب الرجال وهو ما خفي لونه وظهر ريحه فإن اللون ربما شغل بصر المصلي والأولى في تطييب المسجد مواضع المصلين ومواضع سجودهم أولى ويجوز أن يحمل التطييب على التجمير في المسجد والظاهر أن الأمر ببناء المسجد للندب لحديث (جعلت لنا الأرض مسجدًا) وحديث (أينما أدركت الصلاة فصل). 4 - وعن جابر: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). متفق عليه. قال النووي بعد أن ذكر حديث مسلم بلفظ (فلا يقربن المساجد): هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لقوله في رواية (مسجدنا) وحجة الجمهور فلا يقربن المساجد. قال ابن دقيق العيد: ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال فإنه معلل إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين وذلك قد يوجد في المساجد كلها ثم إن النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به. وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها لأنها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين. ـ وحجة الجمهور ـ قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في أحاديث الباب (كل فإني أناجي من لا تناجي). وقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم (أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل اللَّه ولكنها شجرة أكره ريحها) أخرجه مسلم وغيره. قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلًا وكان يتجشأ. قال: قال ابن المرابط: ويلحق به من بخر في فيه أو به جرح له رائحة قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلحق بها الأسواق ونحوها انتهى. وفيه أن العلة إن كانت هي التأذي فلا وجه لإخراج الأسواق وإن كانت مركبة من التأذي وكونه حاصلًا للمشتغلين بطاعة صح ذلك ولكن العلة المذكورة في الحديث هي تأذي الملائكة فينبغي الاقتصار على إلحاق المواطن التي تحضرها الملائكة. وقد ورد في حديث عند مسلم بلفظ (لا يؤذينا بريح الثوم) وهي تقتضي التعليل بتأذي بني آدم. قال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. ـ وقد استدل ـ بالحديث على عدم وجوب الجماعة قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال كل هذه الأمور جائزة بما ذكرنا من لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها ولازم الجائز جائز فترك الجماعة في حق آكلها جائز وذلك ينافي الوجوب. وأهل الظاهر القائلون بتحريم أكل ما له رائحة كريهة يقولون إن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان ولا تتم إلا بترك أكل الثوم لهذا الحديث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فترك أكل ذلك واجب. قوله (فإن الملائكة تتأذى) قال النووي: وهو بتشديد الذال ووقع في أكثر الأصول بالتخفيف وهي لغة يقال أذى تأذى مثل عمى يعمى. قال: قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على منع من أكل الثوم من دخول المسجد وإن كان خاليًا لأنه محل الملائكة ولعموم الأحاديث.
1 - عن أبي حميد وأبي أسيد قالا: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللَّهم افتح لنا أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللَّهم إني أسألك من فضلك). رواه أحمد والنسائي وكذا مسلم وأبو داود. وقال عن أبي حميد أو أبي أسيد بالشك. وأخرجه أيضًا ابن ماجه عن أبي حميد وحده وهو عبد الرحمن بن سعد الساعدي وأبو أسيد بضم الهمزة مصغرًا هو مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري. قوله (فليقل) في رواية أبي داود (فليسلم على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم ليقل) وروى ابن السني عن أنس: (كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال بسم اللَّه اللَّهم صل على محمد وإذا خرج قال بسم اللَّه اللَّهم صل على محمد) قال النووي: وروينا الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عند دخول المسجد والخروج منه من رواية ابن عمر أيضًا وسيأتي حديث فاطمة عليها السلام. قوله (افتح لنا) رواية أبي داود (افتح لي) ويجمع بينهما بأن المنفرد يقول اللَّهم افتح لي وإذا دخل ومعه غيره يقول اللَّهم افتح لنا كذا قال ابن رسلان. قوله (اللَّهم إني أسألك من فضلك) في رواية الطبراني في الأوسط عن ابن عمر: (وإذا خرج قال اللَّهم افتح لنا أبواب فضلك) وفي إسناده سالم بن عبد الأعلى. قال ابن رسلان: وسؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله تعالى وقيل وابتغوا من فضل اللَّه هو طلب العلم والوجهان متقاربان فإن العلم هو من رزق اللَّه تعالى لأن الرزق لا يختص بقوت الأبدان بل يدخل فيه قوت الأرواح والأسماع وغيرها وقيل فضل اللَّه عيادة مريض وزيارة أخ صالح. 2 - وعن فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها قالت: (كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال بسم اللَّه والسلام على رسول اللَّه اللَّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم اللَّه والسلام على رسول اللَّه اللَّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك). رواه أحمد وابن ماجه. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وأبو معاوية عن ليث عن عبد اللَّه بن الحسن عن أمه عن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فذكره وفيه انقطاع لأن فاطمة بنت الحسين وهي أم عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي لم تدرك فاطمة الزهراء رضي اللَّه عنها وليث المذكور في الإسناد إن كان ابن أبي سليم ففيه مقال معروف. ـ وهذا الحديث ـ فيه زيادة التسمية والسلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم والدعاء بالمغفرة في الدخول والخروج وزيادة التسليم ثابتة عند أبي داود في الحديث الأول وابن مردويه وزيادة التسمية ثابتة عند ابن السني من حديث أنس كما تقدم وعن ابن مردويه وقد تقدمت زيادة الصلاة فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول اللَّه والدعاء بالمغفرة والدعاء بالفتح لأبواب الرحمة داخلًا ولأبواب الفضل خارجًا ويزيد في الخروج سؤال الفضل وينبغي أيضًا أن يضم إلى ما أخرجه أبو داود من حديث عبد اللَّه بن عمرو: (عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ باللَّه العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم) وما أخرج الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس في قوله تعالى
1 - عن أبي هريرة قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: من سمع رجلًا ينشد في المسجد ضالة فليقل لا أداها اللَّه إليك فإن المساجد لم تبن لهذا). 2 - وعن بريدة: (أن رجلًا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له). رواهما أحمد ومسلم وابن ماجه. قوله (ينشد) بفتح الياء وضم الشين يقال نشدت الضالة بمعنى طلبتها وأنشدتها عرفتها. والضالة تطلق على الذكر والأنثى والجمع ضوال كدابة ودواب وهي مختصة بالحيوان ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. قال ابن رسلان: قوله (لا أدها اللَّه إليك) فيه دليل على جواز الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبة له في ماله معاملة له بنقيض قصده. قال ابن رسلان: ويلحق بذلك من رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته قال: وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة وما في معناه من البيع والشراء والإجارة والعقود. قال مالك وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه. قوله (وإنما بنيت المساجد لما بنيت له) قال النووي: معناه لذكر اللَّه والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها. قال القاضي عياض: فيه دليل على منع الصنائع في المسجد قال: وقال بعض شيوخنا: إنما يمنع من الصنائع الخاصة فأما العامة للمسلمين في دينهم فلا بأس بها وكره بعض المالكية تعليم الصبيان في المساجد وقال: إنه من باب البيع وهذا إذا كان بأجرة فإن كان بغير أجرة كان مكروهًا لعدم تحرزهم من الوسخ الذي يصان عنه المسجد وقد تقدم اختلاف الأحاديث في دخولهم المساجد في باب حمل المحدث. 3 - وعن أبي هريرة قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل اللَّه ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له). رواه أحمد وابن ماجه وقال: (هو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره). الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة فذكره وحاتم بن إسماعيل قد وثقه ابن سعد وهو صدوق كان يهم وبقية الإسناد ثقات وحميد بن صخر هو حميد الطويل الإمام الكبير. قوله (مسجدنا هذا) فيه تصريح بأن الأجر المترتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق. قوله (ليتعلم خيرًا أو ليعلمه) فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة. وفيه أيضًا التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه لأنه هو الخير الذي لا يقادر قدره وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي خير كان تحت ذلك فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره. وفيه أيضًا التسوية بين العالم والمتعلم والإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة. قوله (ومن دخل لغير ذلك) الخ ظاهره أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد ولا بد من تقييده بما عدا الصلاة والذكر والاعتكاف ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه. ـ والحديث ـ يدل على أن المسجد لم يوضع لكل طاعة بل الطاعات مخصوصة لتقييد الخير في الحديث بالتعليم والتعلم. 4 - وعن حكيم بن حزام قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها). رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. الحديث أخرجه أيضًا الحاكم وابن السكن والبيهقي قال الحافظ في التلخيص: ولا بأس بإسناده وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه وعن جبير بن مطعم عند البزار وفيه الواقدي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة. ـ والحديث ـ يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي. 5 - وعن أبي هريرة: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح اللَّه تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا لا رد اللَّه عليك). رواه الترمذي. 6 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تنشد فيه الضالة وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة). رواه الخمسة وليس للنسائي فيه إنشاد الضالة. الحديث الأول أخرجه النسائي في اليوم والليلة وحسنه الترمذي والحديث الثاني حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة. قال الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب فمن يصحح نسخته يصححه قال: وفي المعنى أحاديث لكن في أسانيدها مقال انتهى. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال مشهور. قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل: رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال: وقد سمع شعيب بن محمد من عبد اللَّه بن عمرو قال أبو عيسى: ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث من صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده. قال علي بن عبد اللَّه المديني: قال يحيى بن سعيد: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه. ـ وفي الباب ـ عن بريدة عند مسلم وابن ماجه والنسائي. وعن جابر عند النسائي. وعن أنس عند الطبراني قال العراقي: ورجاله ثقات. وعن أبي هريرة من طريق أخرى غير التي في الباب عند مسلم. وعن سعد ابن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده الحجاج بن أرطأة. وعن ابن مسعود عند البزار أيضًا والطبراني. وعن ثوبان عند الطبراني أيضًا وثوبان هذا ليس بثوبان مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولم يورده ابن حبان في الصحابة ولا ابن عبد البر وأورده ابن منده. وعن معاذ بن جبل عند الطبراني أيضًا. وعن ابن عمر عند ابن ماجه. وعن واثلة بن الأسقع عند ابن ماجه أيضًا. وعن عصمة عند الطبراني وعن أبي سعيد عند ابن أبي حاتم في العلل. ـ الحديثان ـ يدلان على تحريم البيع والشراء وإنشاد الضالة وإنشاد الأشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وقد تقدم الكلام في إنشاد الضالة. أما البيع والشراء فذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه. وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه. وأما إنشاد الأشعار في المسجد فحديث الباب وما في معناه يدل على عدم جوازه ويعارضه ما سيأتي من قصة عمر وحسان وتصريح حسان بأنه كان ينشد الشعر بالمسجد وفيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكذلك حديث جابر بن سمرة الآتي. وقد جمع بين الأحاديث بوجهين: الأول حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز. والثاني حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وغير ذلك ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي وقد بوب النسائي على قصة حسان مع عمر بن الخطاب فقال باب الرخصة في إنشاد الشعر الحسن. وقال الشافعي: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وقد ورد هذا مرفوعًا في غير حديث فروى أبو يعلى عن عائشة قالت: (سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن الشعر فقال: هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح) قال العراقي: وإسناده حسن ورواه أيضًا البيهقي في سننه من طريق أبي يعلى ثم قال: وصله جماعة والصحيح عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرسل. وروى الطبراني في الأوسط من رواية إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع وحبان بن جبلة وبكر بن سوادة عن عبد اللَّه بن عمر قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبح الكلام). وقد جمع الحافظ بين الأحاديث بحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين وحمل المأذون فيه على ما سلم من ذلك ولكن حديث جابر بن سمرة الآتي فيه التصريح بأنهم كانوا يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية قال: وقيل المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه. وأبعد أبو عبد اللَّه البوني فأعمل أحاديث النهي وادعى النسخ في حديث الإذن ولم يوافق على ذلك حكاه ابن التين عنه انتهى. وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وقد أمكن هنا بلا تعسف كما عرفت. قال ابن العربي: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون إلى غير ذلك مما يذكره من يعرفها وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * إلى قوله في صفة ريقها * كأنه منهل بالراح معلول. قال العراقي: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشادها بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في المسجد أو غيره فليس فيها مدح الخمر وإنما فيها مدح ريقها وتشبيهه بالراح قال: ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يرفع به صوته بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر للصلاة فإن أدى إلى ذلك كره ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدًا. وقد قدمنا ما يدل على النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقًا في باب حمل المحدث. وأما التحلق يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة فحمل النهي عنه الجمهور على الكراهة وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول. وقال الطحاوي: التحلق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه للعلم والذكر. والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي قال: (بينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول اللَّه وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم) الحديث. وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز. وفي حديث ابن مسعود: (سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقًا حلقًا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس للَّه فيهم حاجة) ذكره العراقي في شرح الترمذي قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبو الخليل وهو ضعيف جدًا. قوله (وعن الحلق) بفتح المهملة ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال جمع حلقة بإسكان اللام على غير قياس وحكى فتحها أيضًا كذا في الفتح. وعن سهل بن سعد: (أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله) الحديث (فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد). متفق عليه. الحديث سيأتي بطوله في كتاب اللعان ويأتي شرحه إن شاء اللَّه هنالك. وساقه المصنف هنا للاستدلال به على جواز اللعان في المسجد. وقد جعلت الهادوية إيقاعه في غير المسجد مندوبًا ولا وجه له والتعليل بأنه ربما كان مفضيًا إلى الحد إذا أقر أحد الزوجين بكذبه باطل لأن تسبب الحد عنه نادر لا يستلزم وقوع الحد فيه. 8 - وعن جابر بن سمرة قال: (شهدت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم). رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضًا الترمذي بلفظ: (جالست النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسم معهم) وقال: هذا حديث صحيح. ـ والحديث ـ يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد وقد تقدم الكلام في ذلك. 9 - وعن سعيد بن المسيب قال: (مر عمر في المسجد وحسان فيه ينشد فلحظ إليه فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك اللَّه أسمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول: أجب عني اللَّهم أيده بروح القدس قال: نعم). متفق عليه. قوله (قال مر عمر) رواية سعيد لهذه القصة مرسلة عندهم لأنه لم يدرك زمن المرور لكن يحمل على أن سعيدًا سمع ذلك من أبي هريرة بعد أو من حسان أو وقع لحسان استشهاد بأبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك سعيد. قوله (وفيه من هو خير منك) يعني النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. قوله (أنشدك اللَّه) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي سألتك اللَّه والنشد بفتح النون وسكون المعجمة التذكير. قوله (أيده بروح القدس) أي قوه. وروح القدس المراد به هنا جبريل بدليل حديث البراء عند البخاري بلفظ: (وجبريل معك) والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وفي الترمذي عن عائشة قالت: (كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد فيقوم عليه يهجو الكفار) وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ـ والحديث ـ يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد وقد تقدم الجمع بين حديث الباب وبين ما يعارضه. 10 - وعن عباد بن تميم عن عمه: (أنه رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى). متفق عليه. قوله (واضعًا إحدى رجليه على الأخرى) قال الخطابي: فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورته والجواز يؤمن من ذلك. قال الحافظ: الثاني أولى من ادعاء النسخ لأنه لا يثبت بالاحتمال. وممن جزم به البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ ويمكن أن يقال إن النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى الثابت في مسلم وسنن أبي داود عام وفعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لذلك مقصور عليه فلا يؤخذ من ذلك الجواز لغيره صرح بذلك المازري قال: لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصًا به صلى اللَّه عليه وآله وسلم بل هو جائز مطلقًا. فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض فيجمع بينهما ثم ذكر نحو ما ذكره الخطابي. قال الحافظ: وفي قوله فلا يؤخذ منه الجواز نظر لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال والظاهر أن فعله كان لبيان الجواز والظاهر على ما تقتضيه القواعد الأصولية ما قاله المازري من قصر الجواز عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا أن قوله لكن لما صح أن عمر وعثمان الخ لا يدل على الجواز مطلقًا كما قال لاحتمال أنهما فعلا ذلك لعدم بلوغ النهي إليهما. ـ والحديث ـ يدل على جواز الاستلقاء في المسجد على تلك الهيئة وعلى غيرها لعدم الفارق. 11 - وعن عبد اللَّه بن عمر: (أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم). رواه البخاري والنسائي وأبي داود وأحمد. ولفظه: (كنا في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب) قال البخاري: وقال أبو قلابة عن أنس: (قدم رهط من عكل على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فكانوا في الصفة وقال: قال عبد الرحمن بن أبي بكر كان أصحاب الصفة الفقراء). قوله (عزب) قال الحافظ: المشهور فيه فتح العين المهملة وكسر الزاي وفي رواية للبخاري (أعزب) وهي لغة قليلة مع أن القزاز أنكرها. والمراد به الذي لا زوجة له. وقوله (لا أهل له) تفسير لقوله ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص فيدخل فيه الأقارب ونحوهم. وقوله (في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم) يتعلق بقوله (ينام) ورواية أحمد أدل على الجواز للتصريح فيها بأن ذلك كان في زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم. وقد أخرج البخاري حديث: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جاء وعلي مضطجع في المسجد قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يمسحه ويقول: قم أبا تراب). وقد ذهب الجمهور إلى جواز النوم في المسجد. وروي عن ابن عباس كراهته إلا لمن يريد الصلاة. وعن ابن مسعود مطلقًا. وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح. قوله (وقال أبو قلابة عن أنس) هذا طرف من قصة العرنيين وقد ذكرها البخاري في الطهارة من صحيحه ووصل هذا اللفظ المذكور هنا في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب عن أبي قلابة. قوله (قال عبد الرحمن) هو أيضًا طرف من حديث طويل ذكره البخاري في علامات النبوة. والصفة موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين. وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم وقد تقدم ضبطه وتفسيره في باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه. 12 - وعن عائشة قالت: (أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة في الأكحل فضرب عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب). متفق عليه. قوله (حبان ابن العرقة) بعين مهملة مفتوحة ثم راء مكسورة ثم قاف بعدها هاء التأنيث. قوله (في الأكحل) هو عرق في اليد وتمام الحديث في البخاري: (قالت فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفارًا لا الدم يسيل عليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد يغذو جرحه دمًا فمات فيها) يعني الخيمة أو في تلك المرضة. ـ والحديث ـ يدل على جواز ترك المريض في المسجد وإن كان في ذلك مظنة لخروج شيء منه يتنجس به المسجد. 13 - وعن عبد الرحمن ابن أبي بكر قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز بين يدي عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه). رواه أبو داود. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد وذكر أنه روي مرسلًا. قال المنذري: وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سلمان الأشجعي بنحوه أتم منه. ـ والحديث ـ يدل على جواز التصدق في المسجد وعلى جواز المسألة عند الحاجة وقد بوب أبو داود في سننه لهذا الحديث فقال باب المسألة في المساجد. 14 - وعن عبد اللَّه بن الحارث قال: (كنا نأكل على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في المسجد الخبز واللحم). رواه ابن ماجه. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب وحرملة بن يحيى قالا حدثنا عبد اللَّه بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث قال حدثني سليمان بن زياد الحضرمي أنه سمع عبد اللَّه بن الحارث فذكره وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح إلا يعقوب بن حميد وقد رواه معه حرملة بن يحيى. ـ والحديث ـ يدل على المطلوب منه وهو جواز الأكل في المسجد وفيه أحاديث كثيرة منها سكنى أهل الصفة في المسجد الثابت في البخاري وغيره فإن كون لا مسكن لهم سواه يستلزم أكلهم للطعام فيه. ومنها حديث ربط الرجل الأسير بسارية من سواري المسجد المتفق عليه وفي بعض طرقه أنه استمر مربوطًا ثلاثة أيام. ومنها ضرب الخيام في المسجد لسعد بن معاذ كما تقدم أو للسوداء التي كانت تقم المسجد كما في الصحيحين. ومنها إنزال وفد ثقيف المسجد وغيرهم والأحاديث الدالة على جواز أكل الطعام في المسجد متكاثرة. ـ قال المصنف ـ رحمه اللَّه: وقد ثبت أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أسر ثمامة بن أثال فربط بسارية في المسجد قبل إسلامه وثبت عنه أنه نثر مالًا جاء من البحرين في المسجد وقسمه فيه انتهى. قلت: ربط ثمامة ثابت في الصحيحين بلفظ: (بعث النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم خيلًا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فاغتسل ثم دخل فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه). ونثر المال في المسجد وقسمته ثابت في البخاري وغيره بلفظ: (أُتي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد وكان أكثر مال أُتي به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم) ثم ساق القصة بطولها. ـ والحديثان ـ يدلان على جواز ربط الأسير المشرك في المسجد والمسلم بالأولى وعلى جواز قسمة الأموال في المساجد ونثرها فيها.
1 - عن أنس قال: (كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي). رواه أحمد والبخاري. قوله (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء ستر رقيق من صوف ذو ألوان كما تقدم. قوله (أميطي) أي أزيلي وزنًا ومعنى. قوله (لا تزال تصاويره) في رواية للبخاري (لا تزال تصاوير) بحذف الضمير قال الحافظ: كذا في روايتنا وللباقين بإثبات الضمير قال: والهاء على روايتنا في فإنه ضمير الشأن وعلى الأخرى يحتمل أن يعود على الثوب. قوله (تعرض) بفتح أوله وكسر الراء أي تلوح وللإسماعيلي تعرض بفتح العين وتشديد الراء وأصله تتعرض. ـ والحديث ـ يدل على كراهة الصلاة في الأمكنة التي فيها تصاوير وقد تقدم كراهة زخرفة المساجد والتصاوير نوع من ذلك وقد تقدم أيضًا الكلام على الثياب التي فيها تصاوير. ـ ودل الحديث ـ أيضًا على أن الصلاة لا تفسد بذلك لأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يقطعها ولم يعدها. 2 - وعن عثمان بن طلحة: (أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم دعا بعد دخوله الكعبة فقال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي). رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أبو داود من طريق منصور الحجبي قال: حدثني خالي عن أمي قالت: سمعت الأسلمية تقول: قلت لعثمان ما قال لك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين دعاك قال: (إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي). وخال صفوان المذكور في الإسناد قال ابن السراج: هو مسافع بن شيبة وأم منصور المذكورة هي صفية بنت شيبة القرشية العبدرية وقد جاءت مسماة في بعض طرق هذا الحديث واختلف في صحبتها وقد جاءت أحاديث ظاهرة في صحبتها. وعثمان بن طلحة المذكور هو القرشي العبدري الحجبي بفتح الحاء المهملة وبعدها جيم مفتوحة وباء موحدة منسوب إلى حجابة بيت اللَّه الحرام شرفه اللَّه تعالى وهم جماعة من بني عبد الدار وإليهم حجابة الكعبة. وقد اختلف في هذا الحديث فروى عن منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم عن عثمان وروى عنه عن خاله عن امرأة من بني سليم ولم يذكر أمه. والأسلمية المذكورة لم أقف على اسمها. ـ والحديث ـ يدل على كراهة تزيين المحاريب وغيرها مما يستقبله المصلي بنقش أو تصوير أو غيرهما مما يلهي وعلى أن تخمير التصاوير مزيل لكراهة الصلاة في المكان الذي هي فيه لارتفاع العلة وهي اشتغال قلب المصلي بالنظر إليها وقد أسلفنا الكلام في التصاوير وفي كراهية زخرفة المساجد. قوله (قرني الكبش) أي كبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل.
1 - عن أبي هريرة قال: (أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي). رواه أحمد. 2 - وعن أبي الشعثاء قال: (خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى اللَّه عليه وآله وسلم). رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث الأول روي من طريق ابن أبي الشعثاء واسمه أشعث عن أبيه عن أبي هريرة ورواه عن أبي هريرة أبو صالح ومحمد بن زاذان وسعيد بن المسيب قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن روى الحديث بإسناده ولم يتكلم فيه. وأما الحديث الثاني فروي عن بعضهم أنه موقوف قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون فيه انتهى. وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر وقد وثق وضعف وأخرج له الجماعة إلا البخاري. وفي الرواة من يسمي إبراهيم بن مهاجر ثلاثة: هذا أحدهم وهو البجلي الكوفي. والثاني المدني مولى سعد بن أبي وقاص. والثالث الأزدي الكوفي. وفي الباب عن عثمان بلفظ: قال: (قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: من أدرك الآذان وهو في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق) رواه ابن سنجر والزيدوني في أحكامه وابن سيد الناس في شرح الترمذي وأشار إليه الترمذي في جامعه. ـ والحديثان ـ يدلان على تحريم الخروج من المسجد بعد سماع الأذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو الضرورة إليه حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد قد تعين لتلك الصلاة قال الترمذي بعد أن ذكر الحديث: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه انتهى. قال ابن رسلان في شرح السنن: إن الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة. قال القرطبي: هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية عليه.
|